على وقع أكثر من 9 مظاهرات في مدينة فيينا , وانتشار أكثر من 1500 شرطي في طرقات العاصمة يوم 18 من ديسمبر / كانون الثاني الحالي , أدَّت الحكومة النمساوية القسم أمام الرئيس النمساوي ألكسندر فان در بللن , الذي بدى ممتعضاً من الائتلاف الجديد الذي قاده رئيس حزب الشعب المحافظ الشاب سيباستيان كورتس , والذي حمل معه عدة حقائب وزارية يمينية متطرفة , شغلها قادة حزب الحرية الشعبوي أحد أكثر الحركات الشعبوية تطرفاً في أوروبا الغربية .
بدأت القصة قبل أشهر قليلة , عندما أعلن الائتلاف الحاكم القديم عدم إمكانية استمراره بوجود كريستيان كيرن رئيس الحزب الديمقراطي الإشتراكي على رأس الحكومة , وسيباستيان كورتس على رأس وزارة الخارجية والإندماج , عدم استمرار التحالف كان سببه العديد من الصدامات في رؤية الحزبين , دفع ذلك كورتس لإعلان نيته الترشح لمنصب مستشار النمسا , فيما أعلن كيرن بدوره أن الحزب الديمقراطي الإشتراكي سينتقل إلى مقاعد المعارضة إذا لم يحصل على أعلى نسبة تصويت بالانتخابات التشريعية المبكرة .
لم يخسر الحزب الديمقراطي الاجتماعي الكثير من الأصوات خلال الانتخابات , ولكنّه حلّ ثانياً بعد خسارة حزب الخضر التاريخية , وفقدانه آلاف الأصوات لصالح الأحزاب اليمينية , ورغم إمكانية استمرار التحالف السابق الذي حكم النمسا لعقود طويلة , فضّلَ كورتس والذي احتل حزبه المركز الأول بالانتخابات التشريعية التوجه لليمين المتطرف لتشكيل أكثرية نيابية تسمح له بتشكيل وزاري جديد , في تحدٍ للمستشار الاشتراكي كريستيان كيرن ولحزبه الأحمر .
حزب الحرية اليميني يحصل على أكثر مما كان متوقعاً .
بعد عدة اجتماعات للأحزاب اليمينية , جاء بعضها في أماكن تاريخية ذات دلالات خارجية عميقة ( سأتحدث عن الأثر الخارجي للحكومة في مقالة منفصلة ) , أُعلنت قبل أيّام التشكيلة الحكومية الجديدة التي سلّمت اليمين المتطرف حقائب وزارية أحدثت صدمة كبيرة في أوساط النمساويين والمهاجرين والعديد من المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني في النمسا , حتى حزب الحرية نفسه لم يتوقع أن يحصل على هذه الحزمة الكبيرة من الحقائب السيادية , بالأخص وزارة الداخلية التي سيرأسها هربرت كيكل , أحد قادة اليمين المتطرف , والتي حارب اليمينون المتطرفون للحصول عليها بهدف خنق ملفات الهجرة واللجوء وإغلاق الحدود بشكل كامل , وتحويل النمسا إلى مجتمع أكثر انغلاقاً أمام الإسلام الذي ” لا ينتمي إلى النمسا التي يعرفونها ” حسبما أكد قادة الحزب في العديد من المناسبات .
وزارة الخارجية هي الأخرى ستكون من نصيب اليمين المتطرف , مع فارق أنّ كارين كنايسل الوزيرة الجديدة ستشغل المنصب بصفة مستقلة , و بدون التعريف عن ارتباطها العميق بأقصى اليمين , في خطوة تهدف لتجميل صورة الحكومة في المحافل الخارجية , ولعدم تكرار تجرية يورغ هايدر الزعيم اليميني الذي خاض تجربة ائتلافية مشابهة مطلع العقد الماضي , والتي أدت إلى مقاطعة دول الاتحاد الأوروبي للنمسا وإفشال التشكيل الحكومي اليميني الشعبوي .
وإلى جانب حصول اليمين الشعبوي النمساوي على حقائب الجيش , والصحة والشؤون الاجتماعية , سيشغل نوربرت هوفر ( المرشح الرئاسي السابق لرئاسة الجمهورية عن حزب الحرية ) منصب وزارة البنية التحتية , فيما سيشغل رئيس الحزب والقائد الأول لليمين هاينز كريستيان شتراخة منصب نائب المستشار النمساوي .
ماذا بقي لحزب الشعب المحافظ ؟
و بالنظر إلى الوزارات السيادية , فقط استطاع حزب الشعب المحافظ الإبقاء على وزارة القضاء , كما سيشغل الحزب وزارات الاقتصاد والإعلام والبيئة والتعليم , إلى جانب ترأس رئيسهم سيباستيان كورتس للحكومة بصفة المستشارية , اليمين المحافظ ليس أفضل حالاً من المتطرف إلا بالإسم , فقد طالب وزير التعليم الجديد بسن قوانين تمنع الحجاب في المدارس النمساوية , وسيعمل مع الحكومة على منع الالتحاق المباشر لأبناء اللاجئين في المدارس النمساوية , وإلحاقهم في مراكز تعليمية خاصة في مخيمات وكامبات اللجوء إلى حين تعلمهم اللغة الألمانية , وزارة التعليم ستكون مسرحاً لأحد أكثر فصول انتهاك حقوق الإنسان في المستقبل القريب .
ليس فقط التعليم , فخطط تخفيض المعونات الاجتماعية للاجئين جاءت بناءاً على مقترحات حزب الشعب نفسه , وتم طرحها في البرنامج الانتخابي للحزب والموافقة عليها شفوياً قبيل فوز الحزب بالانتخابات , كما تم التوافق مع حزب الحرية اليميني المتطرف على إجراءات متشددة لطلبات اللجوء الجديدة , تشمل الاستحواذ على الأموال النقدية للاجئين , وتدويرها مجدداً لتغطية تكاليف طلب لجوءه في النمسا , كما تم إيقاف العمل بقرار وقف التدخين في المقاهي والمطاعم , لتكون النمسا البلد الأوروبي الأخير الذي سيطبق القانون , إن تم تطبيقه بطبيعة الحال .
صعود اليمين الشعبوي والإسلاموفوبيا , مترافقين !
كانت الإسلاموفوبيا السبب الأوّل والجوهري لصعود اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في النمسا , إحدى أكثر دول العالم تباهياً بمجتمعها المنفتح واستضافتها للعديد من المنظمات العالمية التي تدعو للمساواة وحقوق الإنسان , هذا الصعود دفع إحدى الصحف المحلية إلى توصيف الحملات الانتخابية للأحزاب اليمينية بالقذارات الإعلامية , ” الأسلمة لا تنتمي للنمسا ” كانت شعار حزب الحرية اليميني المتطرف الذي ملئ به الشوارع وقنوات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي , وعلى اليوتيوب كانت حلقات قصيرة يظهر فيها رئيس الحزب هاينز شتراخة موبخاً النمساويين على فتح حدودهم أمام اللاجئين , يظهر في أحد الحلقات الترويجية زوجان نمساويان يقومان بخدمة عدد كبير من المهاجرين بلا هوادة فيما يسخر شتراخة منهما , في حين داعبت باقي الحلقات مشاعر النمساويين بالتركيز على أن اللاجئين مجرد عالات يجب التخلص منها ,عدا عن سيناريوهات شهرية تتحدث عن خطر إرهابي قادم إلى النمسا , وتصوير اللاجئين على أنهم قنابل موقوتة وربط الإسلام بالتطرف بدون أدنى تمييز , كُل هذا التخويف دفع بالكثير من النمساويين إلى انتخاب اليمين , ورُغم أنني أفهم أسباب الخوف وصعود التطرف – أفهم ولا أقبل – إلا أنني لم أفهم سبب حصول اليمين المتطرف على أهم مفاصل الدولة النمساوية , الجملة الأشهر في أوساط اللاجئين في اليومين الماضيين ” يوم سلّم كورتس رقاب اللاجئين للمتطرفين ” .
المعارضة والمآل ..
لا أحد يستطيع التكهّن بما ستؤول إليه الأوضاع في النمسا في المستقبل القريب , حتى الصحف اليومية التي دعمت اليمين في الانتخابات التشريعية بدت متوترة من التشكيلة الحكومية , المظاهرات التي رافقت استلام الحكومة لمهامها واللافتات التي طالبت بعدم ” عودة النازيين للحكم ” هي مجرد البداية , كما قال المنظمون , ومع امتلاك الحزب الأحمر قاعدة شعبية وعُمّالية كبيرة في فيينا , فإنّ قرارت الحكومة المقبلة لن تمر بسهولة , عدا أنّ برلمان مقاطعة فيينا وعمدتها قد توعدّوا بالطعن في بعض قرارات الحكومة الاتحادية المقبلة .