قبل مئتي عام , وفي أيام مشابهة لتاريخ كتابة هذا النص , كتب جوته قصيدته الأكثر استشراقاً وهروباً من ألمانيا الاتحادية , بدء جوته ديوانه بقصيدة ” هجرة ” التي عنونها بأحرف عربيّة , هجرة جوته من الحروب والاضطرابات إلى الشرق ” المستروح في جو الهُداة والمرسلين ” .
يعتبر الكثير من النُّقاد الألمان كتاب ” الديوان الشرقي للمؤلف الغربي ” للشاعر والأديب الألماني يوهان فولفغانغ جوته , أجمل مؤلفاته الشعرية , والأجمل أيضاً من كُل ما أنتجته الرومانتيكية الغربية الّتي تأثرت بالشرق , رُغم وجود الكثير من الكتابات التي طرحت ذات النزعة الروحية الشرقية في تلك الفترة , لامارتين في ” رحلته إلى الشرق ” , وفيكتور هيجو في كتابه ” المشرقيات ” , و “عبقرية المسيحية ” للكاتب الفرنسي فرانسوا دوشتاوبريان .
انتهجت الرومانتيكية (مدرسة أدبية ظهرت على أعقاب الثورة الفرنسية ) منهجاً مضاداً للنزعة الأوروبية الكلاسيكية التي كانت تستمد منهجها من المغالاة المادية الموجودة لدى اليونانيين , ويفسّر الكثير أنّ أوج الرومانسية الذي بدأ مع بداية القرن التاسع عشر جاء مصحوباً بعدة حروب انتقامية كانت تعصف بأوروبا , مما دفع الكثير من الكُتّاب إلى الهروب من واقعهم إلى وحدة روحية كانت قد تمزقت في بلادهم ولا يمكن أن تأتي مجدداً إلاّ عن طريق الشرق .
حتّى العام 1814 كان جوته ينظر إلى الأديان والآداب الشرقية نظرة المستشرق الحذر , رغم أنّه تعلّم العبريّة في مرحلة مبكّرة من عمره لأنّه أراد قراءة العهد الجديد في نصه الأصلي بدون ترجمة , وعند بلوغه الثلاثين قرأ القرآن بالألمانية ثم باللاتينية , وترجم من اللاتينية عدة آيات , وعندما اشتد اعجابه باللغة العربية قرأ لـ وليم جونز ” المعلّقات العشر ” وبعض الرّباعيّات التي ترجمها جونز للانكليزية بشكل فريد , حتى أنّ جوته ترجم من الانكليزية مقطعاً من المعلقة الأولى لامرؤ القيس , رُغم كُل ذلك ظلّ حذراً بلا وازع حقيقي يدفعه إلى الاستشراق النهائي .
أثّرت هزيمة نابليون بونابرت أمام تحالف عريض ضم معظم الدول الأوروبية في نفسيّة جوته , سقط نجم أوروبا اللامع بعد أن غزا بجيوشه نصف أوروبا قبل عامين , وظلّ جوته طوال حروب المئة يوم مؤمناً بانتصار نابليون من جديد , ولكن ذلك لم يحدث , في منتصف 1814 كانت باريس مجتاحة من تحالف ضحم , ونابليون منفياً إلى جزيرة القديسة هيلانة , نابليون الذي قلّد جوته إحدى أرفع الأوسمة الفرنسية , والتي جعلت من الكثيرين يشككون في انتماء جوته الوطني , كل هذه الأحداث العظام والاضطرابات السائدة في كل شيء دفعت جوته للتصريح : ” شعرت شعوراً عميقاً بوجوب الهروب من عالم الواقع المليء بالأخطار , لكي أحيا في عالم خيالي مثالي أنعم فيه بما شئت من الملاذ والأحلام ” .
وأيّ عالم غير الشرق ؟ بعيداً عن الدوافع السياسية , كانت ثورة الرومانسيين ضد الماديّة اليونانية وبعض مفرزات الثورة الصناعية واشتداد التحزّب للقوميات والحدود والأعراق , لا وزنَ للقوميات ولا معنى للحدود لدى الرومانسيين , لذلك فتح الألمان منهم الباب على مصراعيه لتلقي الآداب الأجنبية , الألماني فريدريش شليجل الذي يُعتبر المنظر الأهم للرومانسيين الأوائل كان يحلم بأن يجعل ألمانيا مركزاً عالمياً للروح الأنسانية بأسرها , وقد تأثّر جوته بأفكارهم , بعد عدة ترجمات أوروبية لآداب شرقية وجد أنّه بالإمكان حقاً أن يصبح للإنسانية أدب واحد مشترك , ترفده الأمم جميعها .
إذا سألتَ اليوناني عن الوقت , سيقول لك ” وقتٌ كبير أو وقت صغير ” , يميل اليوناني إلى تحجيم وتضليع أفكاره , مخالفاً المتعارف عليه , السويديين أو الألمان على سبيل المثال يجيبون عن الوقت بالمسافة : ” وقت طويل , أو وقت قصير ” , تعود أفكار التحجيم والتصوير لدى اليونانيين إلى عصر فلاسفتهم الأوائل , نظرية ” العقول العشرة لأفلاطون ” التي حاول من خلالها تجسيم وتصوير فكرة الخلق والاستواء , لو سألت العربي عن الاستواء سيجيب : ” الاستواء معلوم والكيف مجهول ” لا أكثر , للشرق دائماً أجوبة أكثر منطيقة في الجوانب الروحانية واعتراف صريح بعدم امتلاك الإجابة هي أكثر عقلانية من اختراع إجابات لا منطقية ، وأمام هذا الجمود الأوروبي كان البحث عن العواطف ومعاني الخير والشر والالتزام الديني والتصوف ماثلاً في الشرق , يقول جوته : ” لليوناني أن يُعبّر عن أنغامه في صور , وله أن ينتشي بما صنعته يداه , أمّا نحن فيلِذُّ لنا أن نغوصَ في الفرات , إذا غرفت يد الشاعر الطاهرة فيه , تواثبت فقاعات الماء ” .
استياء شديد وقع فيه جوته من أساليب الغربيين في التعبير عن أوضاعهم , كان جوته يبحث عن منبر جديد فيه حرية وانطلاق وخلاص من واقعه , في نفس العام قرأ جوته بعض دواوين حافظ شيرازي , ولكم أن تتخيلوا الأثر الّذي أحدثته أشعار الفارسي في نفس جوته , أحاديث وأشعار عن الحب والورود والخمر في بلاد يعصفها القتل والهزيمة , يبدو أنّه اقتنع أخيراً بالـ ” الاغتراب الروحي ” في ضجة الحروب والحكّام والملوك .
كتب جوته في الأعوام اللاحقة عدّة أشعار ونثريات استشراقية , جمعها في عام 1818 إلى ديوانه ” الديوان الشرقي للمؤلف الغربي ” , يفتتح جوته ديوانه : ” دعوني مقيماً على سرج جوادي , وأقيموا ما شئتم في دياركم ومضارب خيامكم , أما أنا فسأجوب من الأنحاء قاصيها على صهوة فرسي , فرحاً مسروراً لا يعلو على قلنسوتي غير نجوم السماء , الشمال والغرب والجنوب تتحطّم وتتناثر , والعروش والممالك تتزعزع وتضطرب , فلتهاجر إذاً إلى الشرق في طهره وصفائه , وفي عزمي أن أسلك كل سبيل , من البادية إلى الحضر ومن الحضر إلى البادية ”
لقد وصل غوته أخيراً إلى البادية التي لم يزرها يوماً , وإلى الخيام التي لم تطأها قدماه , ثم راح يصور نفسه في باقي قصائده كرحّالة يتغنّى بعادات الشرق وبإسلامه , ولم يجد الغربي المسيحي أي حرجٍ في أن يعتبر نفسه مسلماً يؤمن برسالة محمّد : ” من الجنون أن يفرض كل إنسان في كل حالةٍ رأيه ويمجّده ! إذا كان الإسلام معناه التسليم لله , فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعاً ” ,ويكمل جوته في كتاب الخُلد : ” المسلم الحق يتحدث عن الفردوس كما لو كان هو نفسه هناك , ويؤمن بالقرآن وما يعد به , وعلى هذا الأساس تقوم العقيدة الطاهرة “
بعد مئتي عام حصلت هجرة جديدة , صارت ألمانيا مركزاً عالمياً للمبادئ والقيم الإنسانية , واستقبلت هجرة الشرق المتخم بالحروب والويلات إلى الغرب الهادئ السعيد الذي لم تعرف أجياله التي تعيش الآن أي معنى للحرب , والذي يزداد تقدماً باطراد تراجع مجتمعاتنا وتخلفها , كان أمام جوته عالم جميل يهاجر بروحه إليه ، شرق ينعم بهدوئه وإيمانه الذي يريدون منّا جميعاً أن نتبرئ منه .